قصة جعيثن بن عواد الحسيني
وقصيدة
يابن رخيص كب عنك الزواريب عمـارنا يابن رخيص عواري
خوينـا مانصلبـه بالمصـاليب ولا يشتكي منا دروب العزاري
يرويها الشيخ الراوية:عواد بن سطام الحسيني الخريصي[1].[2] [3]
نقلها:د. خالد بن صالح بن عبدالرحمن الدعيلج.
الحلقة الأولى:جعيثن يضحي بنفسه من أجل سلمان.
أراد ابن رخيص من الزميل من سنجارة الذهاب مع جماعة من شمر لغزو ديار عنزة في غمرة بالقرب من خيبر وهي على بعد (3)كم تقريبا منها، وكان هوعقيد الغزو .أراد القوم أن يصحبهم في هذا الغزو جعيثن بن عواد بن سلامة الخريصي ،ولم يكن لجعيثن رغبة في الغزو معهم ،ولكنهم أصروا عليه فوافق على مضض،وكان هناك فتى صغير السن يسمى سلمان بن قدور من السويد من شمر يريد الغزو معهم كذلك،و قد حاولت أمه أن تثنيه عن ذلك ولكنه أصر إصراراً شديداً.فجاءت أمه ومعها قطعة من اللحم المطبوخ وقالت للقوم من يأخذ هذه اللحمة بحلالها ويأتيني بحرامها،فتحير القوم ولم يفهموا ما تريد؛ فهم يعرفون أن حلالها أكلها، ولكن ما هو حرامها؟،فأخذها جعيثن وأكلها ثم أخذ عودا صغيرا واخرج به قطعة من اللحم من بين أسنانه وقال هذا حرامها. فقالت صدقت ؛إني أريد أن أبعث ابني سلمان معك أمانة بشرط ألا تعود إلا وهو معك إن كان حياً ،أو تأتي برأسه إن كان ميتاً فوافق جعيثن على ذلك الشرط وذهب سلمان مع الغزو.
اقتربت السرية من ديار عنزة ولكنهم لم يكونوا موفقين هذه المرة ،فقد انهال عليهم الرمي من كل مكان وأصيبوا إصابات كثيرة،وكان ممن أصيب سلمان، حيث سقط في أرض المعركة،فأراد جعيثن الذهاب إليه فنصحه بعضهم بعدم الذهاب لأن سلمان قد وقع وليس به حراك والغالب أنه قد فقد الحياة،كما أن الرمي شديد جدا ولا يستطيع احد أن يقترب منه .فأصر جعيثن على الذهاب لسلمان وقال :إما أن آتي به أو أن أموت معه وحينها بلغوا أمه بأني دفنت بقربه.استطاع جعيثن أن يصل بصعوبة إلى سلمان وكانت المفاجأة أنه كان على قيد الحياة، ولكن ساقه مكسورة فاحتمله بكل شجاعة وأبعده عن أرض المعركة.وبعد أن انتهى القتال طلب منهم ابن رخيص الاستعجال في المسير فاستوقفه جعيثن وقال: وماذا نفعل بسلمان ،فقال ابن رخيص: نحمله على الذلول (الراحلة ) حتى نصل به ديار شمر.أدرك جعيثن أن هذا القرار بلا شك إلى تأخير تجبير ساقه المكسورة ، إضافة إلى الآلام الشديدة التي سيعاني منها وهو مازال صغيراً لا يحتمل مثل هذا الألم، وخصوصا مع كثرة اهتزازه على ظهر الذلول.
اعتذر جعيثن عن المسير وأصر على البقاء مع سلمان حتى يشفى ،حتى وإن كانوا بعيدين عن ديارهم وفي غربة وبالقرب أيضا من ديار عنزة والتي تشكل بالنسبة لهم خطرا كبيرا،وقال جعيثن قصيدته المشهورة التي يقول في أحد أبياتها :(خوينا ما نصلبه بالمصاليب ---- ولا يشتكي منا دروب العزاري) وقال :سأجلس مع صاحبي فإما أن يُشفى أو أن نموت سوياً، فجلس هو صاحبه،وأما بقية السرية فذهبوا إلى ديارهم.
الحلقة الثانية: جعيثن وسلمان في غار الشمري .
بقي جعثين مع سلمان ابن قدور في غار في رأس جبل بالقرب من ديار عنزة ،ويعرف هذا الغار عند شمر (بغار جعيثن بغمرة) ، و يعرف أيضا عند قبيلة عنزة (بغار أو زريبة الشمري ).قام جعيثن إلى ناقته ليذبحها فقال له سلمان ذلولك ،ففال له جعيثن إن سلمنا الله فسيرزقنا غيرها،وإن حصل غير ذلك فلا فائدة منها.فشرَّح لحمها وحوله إلى قديد ليأكلوا منه إذا لم يجدوا من الصيد ما يكفي.وكان جعيثن يذهب إلى خيبر في الليل ليستقي من الماء ويشتري ما يحتاجونه من التمر،فأحس به بعض أقارب شيخ عنزة فخشي أن ينكشف أمر جعيثن لبعض أفراد عنزة فيقتله لينتقم منه،ولو حصل هذا في أرض الشيخ فسيُعَيَّر به أبد الدهر،فنصح قريب الشيخ جعيثن بعدم المجيء إلى خيبر ووعده بأن يوفر له الماء والتمر كل يوم حتى يأذن الله لهم بالفرج ويرحلون إلى ديار شمر.
مكث جعيثن وسلمان خمسا و أربعين ليلة وبعدها طلب من سلمان أن يسابقه فسبق جعيثن سلمان ،و أحس سلمان بشيء من التعب والألم ، فعلم جعيثن أن العظم لم يجبر بطريقة صحيحة،فكسره مرة أخرى وصحح تجبيره .وبعد خمس أربعين ليلة أخرى تسابقا الاثنان فسبق سلمان بن قدور في هذه المرة. علم شيخ عنزة من بعض الوشاة بقيام أحد أقارب الشيخ بالذهاب إلى الشمريين اللذين في الغار.راقب الشيخ قريبه عن بعد ورأى ما يقوم به من حمل للزاد للشمريين؛فما كان منه إلا أن استدعاه وطلب منه قول الحقيقة وتبرير فعلته.شرح قريب الشيخ سبب ما قام به ومدى خوفه من قتلى الشمريين في ديار عنزة وما قد يلحق به من العار بسبب ذلك.وبين له عظم التضحية والوفاء الذي تمثله جعيثن في هذه القصة النادرة .أكبر الشيخ فيهم هذه التضحية وطلب من قريبه أن يستفهم منهم متى ينوون السفر،فلما حدد جعيثن موعد السفر وأخبر به قريب الشيخ .قال الشيخ لقريبه أخبرهم بأنهم سيجدون ذلولاً وماء وطعاما يكفيهم مسيرة الطريق إلى ديارهم بالقرب من المكان الذي كنت تضع لهم فيه الماء والتمر.عندما حل موعد السفر ذهب جعيثن إلى المكان وقال لسلمان ابق لوحدك فإن سمعت إطلاق نار فانجو بنفسك وإلا سأعود إليك ونذهب سويا بإذن الله، ذهب جعيثن للمكان المحدد ووجد الذلول بحسب الوصف وعليها الماء والطعام ولا يوجد بجوارها أحد،ثم بحث وفتش المنطقة القريبة منها فلم يجد فيها أحداًَ، ولم يلاحظ أي كمين ،فأخذها وذهب لصاحبه وانطلقا إلى ديارهم.وعندما وصلا إلى متالع وهي من ديار السويد من شمر . نزل جعيثن من على الذلول وقال لسلمان توكل على الله واذهب لأهلك،فقال سلمان و لكن الذلول هي لك وليست لي فرد عليه جعيثن بأنها لك يا سلمان وليس لي فيها شيء أبدا.ثم عرض عليه ابن قدور نخل بمتالع جزاءً لما فعله معه ولكن جعيثن رفض ذلك ثم اعطاه (الجيب/الجيم) بالعصام ومازال هذا العطاء لذرية جعيثن وهم خمسة أفخاذ يسكنون بالعصام ويعرفون حاليا (بالحسينة) ،وهذه هي قصيدة جعيثن التي قال فيها هذه القصة حيث يقول [4]:
قل هيه يا هل الشايبات المحاقيب |
أقفن من عندي جداد الأثاري |
|
أقفن من عندي بيـض المحـاقيب |
أقفن من عندي جديد الاثاري |
|
أقفن من عندي كما يقفي الذيب |
يطالع الشاوي بليل غـداري |
|
يكن صفق أذيالهن بالعـراقيب |
رقـاصة دلـت بزينة تمـاري |
|
يا بن رخيص كب عنك الزواريب |
عمـارنا يابن رخيص عواري |
|
خوينـا ما نصلبـه بالمصـاليب |
ولا يشتكي منا دروب العزاري |
|
لزماً تجيك أمه بكبـده لواهيـب |
وتنشدكم يالقرم والدمع جاري |
|
تسـألك باللي يعلم السر والغيب |
عن ابنه اللي لك خوي مباري |
|
قـل ابنك قعد بالعاليات المراقيب |
بديرةً ماحوله الا الحبــاري |
|
عنده خـويه لين يبدي به الطيب |
والا يجيه من العواثير جـاري |
|
وان كـان ماقمنا بحق المـواجيب |
حرمن علينا لابسات الخزاري |
لقد ضرب جعيثن أمثلة رائعة على سمو أخلاقه وطيب معدنه،وذلك في عدد من المواقف الرائعة في هذه القصة،كما ظهرت مواقف رائعة من جهة شيخ قبيلة عنزة وقريبه،وفيما يلي عرض لبعض هذه المواقف:
أولاً: الوفاء بالعهد:
التزام جعيثن بالعهد الذي قطعه على نفسه تجاه والدة سلمان بإحضاره،مع أن ذلك كان كفيلاً بالقضاء على حياته قضاء مبرماً، كما أن الظروف والملابسات المحيطة بإصابة سلمان في المعركة كافية لمنع جعيثن من المجازفة بنفسه لإحضاره من أرض المعركة وسط ذلك الرمي الكثيف.وقد كان لديه من الشهود العدد الكافي ممن سيشهد بخطورة الموقف ،ويشهد بأن جعيثن لم يكن مفرطاً حينها أو متهاوناً في الالتزام بعهده؛خصوصاً أن جميع المؤشرات كانت تدل على موت سلمان وأنه من غير المعقول أن يخاطر الإنسان بحياته من أجل إحضار جثة هامدة.
ثانياً:الرحمة:
حرص جعيثن على أن يعود سلمان لوالدته صحيحاً معافى من غير علة أو عاهة،ولذا فقد قرر مباشرة علاج كسر سلمان ، والبقاء في ذلك المكان الموحش،المحفوف بالمخاطر من جهة القبيلة الأخرى، حتى يأذن الله له بالشفاء.ولما شفي سلمان بعد مضي خمس وأربعين ليلة ولكن مع بعض الألم والتعب؛ لم يرق ذلك لجعيثن وقرر معاودة العلاج مرة أخرى والبقاء خمسا وأربعين ليلة أخرى فأكمل بها التسعين ليلة،وتأكد بنفسه بأن سلمان قد عاد لسيرته الأولى كأن لم يصب أو يكسر.فمن لديه القدرة على التضحية بكل ذلك من أجل ألا يعكر عيش أم سلمان برؤية ابنهاً كسيراً هذا من جانب، ومن جانب آخر ألا يجعل سلمان يعاني من الألم الشديد من خلال نقله على البعير،وقد يتسبب ذلك في جبر كسره بطريقة خاطئة، إنها أخلاق الكبار.
ثالثاً:التضحية:
لقد ضحى جعيثن براحلته في بداية الأمر وذبحها ليأكلا منها، ولكنه قدم ما هو أكبر من ذلك ؛لقد ضحى جعيثن بنفسه عندما ذهب إلى مكان الراحلة التي وُعد بها ليكتشف ما إذا كان هناك كمين ينتظرهم، ولم يطلب من سلمان أن يذهب لوحده، كما أنه لم يطلب منه أن يصاحبه في ذلك الموقف المحفوف بالمخاطر،فلربما احتاج جعيثن إلى مساعدة سلمان في لحظة حرجة،ولكن من قدم تضحية لاستنقاذ سلمان من أرض المعركة ؛لا يستغرب عليه أن يضحي مرة أخرى من أجله.
رابعاً:الإيثار:
لقد آثر جعيثن سلمان في عدة مواقف وختمها بالتنازل عن الراحلة التي عادا عليها، ليعود جعيثن إلى منزله بعد ثلاثة أشهر خالي الوفاض بلا راحلة وبلا مغنم إلا الأجر الكبير عند الله عز وجل لتضحيته ووفائه بعهده، وبقاء الذكر الحسن الذي سيتداوله الناس إلى أن يشاء الله.
خامساً:التحلي بأخلاق الكبار:
لقد تميز قريب شيخ عنزة في تعامله مع جعيثن وسلمان بأخلاق عالية ،ولم تدفعه المواقف السابقة بين القبيلتين على أن ينتقم لنفسه أوقبيلته.بل غلبت عليه أخلاق العرب والمسلمين الذين يرحمون المصاب ويقدرون من يخاطرون من أجل غيرهم.كما أن الشيخ كان مثالاً على الحكمة والتأني في التأكد من الأخبار التي تنقل إليه، والتعاطي معها بعقل وبصيرة.وقد كان في الوقت نفسه ذو أخلاق سامية تعالى فيها على منطق الصراع ،وغلب النخوة والحمية والكرم في تقدير موقف الكسير ومرافقه،وفي دعم ومساندة قريبه في موقفه النبيل.
هذه قصة من القصص التي تحمل قدراً كبيرا من المعاني السامية،وما ذكرنا إلا القليل منها،ونسأل الله عز وجل أن يرحم جعيثن وسلمان وجميع من شاركوا في هذه الأحداث من القبيلتين، وأن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته إخوانا على سرر متقابلين.
[1] عواد بن سطام الحسيني الخريصي: أحد أحفاد جعيثن بن عواد الحسيني (رحمه الله)، ومن الرواة المتقنين لسيرة جده جعيثن الحسيني.
[2] لقد تكرم علينا الراوية الشيخ عواد بن سطام الحسيني الخريصي الشمري ـ أمد الله في عمره في طاعته ـ بزيارته في بيته العامرفي مدينة الثقبة بمحافظة الخبر بالمنطقة الشرقية.وذلك لنستفيد مما لديه من علم غزير بقصص وأخبار السابقين ،والرواية عنهم.وقد حضر هذا اللقاء الشيخ عبد العزيز بن صالح الدعيلج،والأستاذ عبدالكريم بن عقيل الزبير الخريصي الشمري .
[3] لقد توفي الراوية الشيخ عواد بن سطام الحسيني الخريصي الشمري (رحمه الله رحمة واسعة ) في يوم السبت 4/4/1431هـ،وقد عليه وحضر جنازته خلق كثير من أقاربه وجماعته ومحبيه ،فقد كان يتمتع بمنزلة كبيرة لدى قبيلة شمر في المنطقة الشرقية ،كما كان يحظى بمحبة أهل حيه ومن يعرفه من القبائل الأخرى.وبموته رحمه الله فقدت المنطقة راوية من الرواة الثقاة الملمين بتاريخ وموروث عدد كبير من القبائل العربية.هذا وقد روى هذه القصة قبل تاريخ وفاته بما يقارب العام.
[4] لقد ذكر مؤلف الموثق في الأنساب بعضاً من هذه الأبيات:انظر
أبو عبدالهادي الفريسي :الموثق في الأنساب (سلسلة تعنى بقبائل شمر وعنزة) ،الطبعة الثانية ،دمشق:دار علاء الدين،2006م،ص214.